نعيد في هذه الزاوية نشر مقالات المفكر المغربي محمد عابد الجابري لكل غاية مفيدة.
لم يكن حضور ابن رشد يمثل في أوربا سوى نوع من “المستقبل الماضي” الذي غادر حاضره. ومع ذلك فإن ذلك “الحاضر”، الذي استقر على الجمود والتقليد قرونا، سرعان ما اكتشف “مستقبله الآتي” تحت صدمة ما يعرف بحملة نابوليون على مصر، حملة فريدة من نوعها: تضم العلم والعلماء وتبشير بالحرية والتقدم، كما تضم السلاح والعسكر وتدشن لمرحلة من الاستعمار لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
لقد ملأت هذه الحملة، العلمية العسكرية الاستعمارية، نفوس المصريين ومعظم العرب بنوع من التناقض الوجداني إزاء أوروبا. فريق رأى حقيقتها في علمها وحضارتها، وفريق رأى جوهرها في الاحتلال والاستعمار. وبينما وقف الفريق الأول مندهشا، يتلمس أسباب التقدم والنهضة، هب الفريق الثاني للدفاع عن الوطن والهوية والتراث. وفي الوقت نفسه كان علماء الحملة يعملون في صمت، بما أحضروه معهم من منتجات العلم الحديث، على زعزعة الجمود الذي ران على البصائر والأبصار لمدى قرون. ولم يمر وقت طويل حتى أخذت البعثات العلمية تتوافد على أوربا لتعاين عن قرب ما حدث!
وشيئا فشيئا بدأ المثقفون العرب الجدد يكتشفون ابن رشد والفارابي وابن سينا والغزالي وابن الهيثم والعلماء الآخرين من خلال ما كتبه المستشرقون وغيرهم، فكان ذلك نوعا من الاكتشاف للذات جديد، التقى فيه حلم “المستقبل الماضي” مع “حلم المستقبل الآتي”، فلم يتردد كثيرون منهم من الصدع بما وراء حلمهم هذا صارخين: لقد سبقنا أوربا في كذا… وكذا..! وبالتالي “”فما تحقق في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل”! يا له من حلم عميق!
وعلى ضفاف هذا الحلم قامت دعوات تنادي: لنفعل مثلما فعلت اليابان وسنتحرر من سيطرة الاستعمار الأوروبي وسنهزم (نحن الشرق) أوربا (الغرب) كما هزمت اليابان روسيا القيصرية في أوائل القرن العشرين! لقد بدأ العرب ينظرون إلى صورتهم في مرآة اليابان التي لم يكن لها حضور في مرآتهم طوال تاريخهم المديد!
إنه الفضاء الحضاري للثقافة العربية الذي لم يعد يقبل التحديد بمقولات الجاحظ والشهرستاني والبيروني : العرب والفرس والروم. لقد بدأ تجاوز هذه المقولات عندما أخذت الرشدية تخترق الفكر الفلسفي المسيحي الأوربي، وها هي اليابان اليوم، والصين غدا، تلتحمان عبر ماليزيا وإندونيسيا وباكستان بعالم الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط. حقا، إن ما يشهده عالمنا اليوم هو –بعبارة ابن خلدون- “خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”!
لقد وعى العرب منذ قرنين فقط هذه الحقيقة التي صدع بها ابن خلدون قبلهم بستة قرون، ولكن وعيهم بها لم يكن امتدادا لوعي ابن خلدون بل بفعل حملة نابليون وآثارها، فتكونت بذلك فجوة على صعيد الوعي العربي لم يتم تجسيرها إلى اليوم. أما الذين حاولوا تجسيرها ففريق منهم عمدوا إلى جر الجسر من الماضي إلى الحاضر، وفريق آخر فعلوا العكس، فجعلوا الجسر يمتد في وعيهم من”المستقبل” الآتي الذي لم يأت بعد، إلى “الحاضر الماضي” الذي لم يمض بعد! والنتيجة في كلتا الحالتين: تجاهل ابن رشد، لا، بل الجهل به.
لقد تحدثا في مقال سابق عن مشروع ابن رشد للتغيير والتصحيح، فلا ضرورة إذن لتكرار القول فيه. فلنُذكِّر إذن بما كتبناه في الموضوع منذ أن بدأنا نعمل في هذا الذي يضاف إلينا اليوم كـ”مشروع فكري”، وبالتحديد منذ كتبنا “نحن والتراث” (1980). لقد سجلنا في خاتمة المقدمة العامة التي صدرنا بها ذلك الكتاب والتي أصبحت مقدمة للمشروع كله، سجلنا ما عبرنا عنه بـ”الخلاصات النظرية العامة” التي خرجنا بها من القراءات التي قدمناها “لجوانب مهمة من تراثنا الفلسفي”. لقد تساءلنا : “ماذا تبقى الآن (1980) من تراثنا الفلسفي؟ فكان الجواب:
“إن ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا لا يمكن أن يكون إلا رشديا”. ثم أضفنا، ، فقلنا في ذلك الوقت ونقول اليوم: “فلننظر الآن إلى ما تبقى من الرشدية كعناصر صالحة للتوظيف في حياتنا الفكرية المعاصرة، ولنجمل هذه العناصر في النقط التالية :
1- إن ما جعل الرشدية تدخل التاريخ في نظرنا هو قطيعتها مع السينوية في صورتها التي اختارها لها ابن سينا نفسه بفلسفته المشرقية والتي تبناها الغزالي في شكل، والسهروردي الحلبي في شكل آخر… لقد قطع ابن رشد مع الغنوصية عش اللامعقول، فلنأخذ منه -إذا كان لا بد من استعمال هذه الكلمة- هذه القطيعة ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع اللاعقلانية في التفكير والسلوك، ولنخضها معركة حاسمة ضدها.
2 – لم يقطع ابن رشد مع الروح السنوية الغنوصية وحدها بل قطع أيضا مع الطريقة التي عالج بها كل من المتكلمين والفلاسفة الإسلاميين العلاقة بين الدين والفلسفة. لقد رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل والنقل ورفض طريق الفلاسفة (الفارابي وابن سينا) الهادفة إلى دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين.
لماذا ؟
– لأن المتكلمين كانوا يحكمون عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين، ويحكمون الفهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين، بهذه الطريقة، في العقل… فشوهوا الواقع وضيقوا على العقل.
– ولأن الفلاسفة كانوا يحكِّمون”الفلسفة” في الدين، ويقيدون العلم بالفهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين فأخضعوا العلم لمستوى فهمهم ولم يطوروا مستوى فهمهم مع العلم. لقد قطع ابن رشد مع هذا النوع من العلاقة بين الدين من جهة والعلم والفلسفة من جهة أخرى، فلنأخذ منه – إذا كان لا بد من استعمال هذه الكلمة مرة أخرى- هذه القطيعة، ولنتجنب تأويل الدين بالعلم وربطه به لأن العلم يتغير ويتناقض ويلغي نفسه باستمرار! ولنتجنب تقييد العلم بالدين لنفس السبب. إن العلم لا يحتاج إلى أية قيود تأتيه من خارجه لأنه يصنع قيوده بنفسه.
3 – ولكن ابن رشد لم يقطع وحسب، بل قدم البديل، والقطيعة -في المعنى الذي نستعملها فيه هنا- لا تؤسس نفسها إلا من خلال بديل جديد تقدمه كنفي للقديم وتعويض له – والبديل الذي قدمه ابن رشد في هذا المجال، مجال العلاقة بين الدين والفلسفة، يقبل أن نوظفه لبناء العلاقة بين تراثنا والفكر العالمي المعاصر بشكل يحقق لنا ما ننشده من أصالة ومعاصرة. لقد دعا ابن رشد إلى فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته، وفهم الفلسفة والعلم داخل مجالهما وبواسطة مقدماتها ومقاصدها، وذلك في نظره هو الطريق إلى التجديد في الدين والتجديد في الفلسفة، فلنقتبس منه -كذلك- هذا المنهج، ولنبن بواسطته علاقتنا مع تراثنا من جهة والفكر العالمي المعاصر الذي يمثل بالنسبة إلينا ما كانت تمثله الفلسفة اليونانية بالنسبة لابن رشد، من جهة أخرى. فلنتعامل مع تراثنا على أساس فهمه من داخله، ومع الفكر العالمي المعاصر على نفس الأساس أيضا، فنبني لأنفسنا فهما علميا موضوعيا للجانبين معا يساعدنا على الربط بينهما في اتجاه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا…
تلك في نظرنا أهم العناصر المتبقية في الرشدية والصالحة لأن نوظفها في مشاغلنا الراهنة. إنها تتلخص في كلمة واحدة هي : الروح الرشدية. ونحن حينما ندعو هنا إلى استعادة الروح الرشدية لا نعني أكثر من جعلها حاضرة في فكرنا ونظرتنا وتطلعاتنا بمثل ما هي حاضرة في فكر الفرنسيين الروح الديكارتية، وبمثل ما هي حاضرة في فكر الانجليز الروح التجريبية التي أسسها لوك وهيوم. والواقع أننا إذا تساءلنا: ماذا بقي من الديكارتية في فرنسا أو من تجريبية لوك وهيوم في انجلترا فإننا سنجد شيئا واحدا نعبر عنه بالروح الديكارتية بالنسبة لفرنسا والروح التجريبية بالنسبة لإنجلترا، وذلك ما يشكل خصوصية كل منهما. فلنبن خصوصيتنا، إذن، على ما هو منا والينا وفي ذات الوقت غير بعيد عنا. إن الروح الرشدية يقبلها عصرنا، لأنها تلتقي مع روحه في أكثر من جانب، في العقلانية والواقعية والنظرة الأكسيومية (الشمولية) والتعامل النقدي.
وبعد، فقد قدمنا في المقالات السابقة عرضا عاما عن الفضاء الحضاري للثقافة العربية الذي يشمل ما يسمى اليوم بالشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض بضفتيه الشمالية والجنوبية. ولكننا بقينا نتحرك في حدود ما جرت به العادة لدينا ولدى شركائنا في هذا الفضاء ، حدود المجال الفكري، مجال الفلسفة والعلم. أما المجال الموازي له –والمتدخل معه كذلك- مجال الدين فقد بقي غائبا، وقد حان الوقت لتدشين القول فيه. أليس العالم اليوم يتكلم “الدين” أكثر مما يتكلم العلم والفلسفة؟
اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)