شهر مر على فقدان شخصية جزائرية و إنسانية كبيرة صنعت المشهد الثقافي و الفكري الوطني و العربي و الإنساني لزمن طويل، بمنجزها الكبير و الفعال. لم أصدق عندما وصلني خبر وفاة الباحث الدكتور زهير إحدادن (1929-2018) و أنا في عمق دروسي في جامعة السوربون الفرنسية. لم أستطع الاستمرار في المحاضرة إلا بشق الأنفس، ليس فقط لأني كنت أعرف الرجل و إسهاماته الفكرية وتاريخه بشكل جيد، و لكن لأني كنت أيضا، و الكثير من أمثالي، ننتظر منه المساهمة في تحليل وضع اليوم و المساهمة في إنقاذ الجزائر و هي تواجه تهديدات التطرفات الدينية و السياسية الجشعة، و التحالفات الداخلية بين المافيا المالية الناهبة للمال العام وساسة البيع والشراء، و المطامع الأجنبية التي لم تعد تخفى على أحد. كانت بصيرة زهير إحدادن حادة و دقيقة على الرغم من أحاديثه المقتضبة و كأنه يخاف من الانزلاقات غير المحسوبة.
الموت يكون صعبا عندما يأتي فجائيا و الأصعب منه هو نهاية شخص نظنه في لاشعورنا الجمعي، إنه فوق الموت و أكبر منه. بل يموت الآخرون و يبقى هو حيا. كان زهير إحدادن ينتظر صدور سيرته و مذكراته itinéraire d’un militant مسيرة مناضل. و كذلك الكثير من المختصين في التاريخ والإعلام والمتابعين له، كانوا أيضا ينتظرونها لأنها لن تكون عادية من و جل اخترق قرابة القرن (89 سنة) محملا بالأسئلة الصعبة، و مساهما في الإجابة عنها في عز الصراعات السياسية في بلد قلق جدا. لكن الموت سبق الجميع و فرض مسطرته، و سرقه قبل حتى أن يعلم أصدقاؤه بذلك. توفي في مستشفى عين النعجة العسكري (20 جانفي 2018) تاركا وراءه ميراثا كبيرا و أسئلة معلقة ظل زهير إحدادن باحثا وفيا لعمله الأكاديمي و التاريخي، خارج حسابات الدوائر السياسية و النفعية التي كان يخافها لدرجة أن حدد مفهومه لكلمة مناضل بالشخص الذي يتفادى الدخول في لعبة الفساد التي مست الكثيرين، مهما كانت المغريات. بغيابه الفادح، تكون الجزائر و المساحات الثقافية العربية و الإنسانية، قد خسرت شخصية تاريخية و نضالية كبيرة، و واحدا من أهم مثقفيها و مفكريها. رجل عاش في تواضع كبير و استقامة أكبر، و فيا لمثله العليا. كان لي حظ الاستماع إلى الكثير من محاضراته التاريخية و الثقافية العامة، و الاشتراك معه في بعضها، علمني ذلك شيئين جديرين بالاهتمام: الرزانة في أي فعل ثقافي، فلا أحد يملك المعرفة المطلقة، و التبصر في كل ما نقوم به، فهناك زوايا مظلمة علينا أن نعرف كيف نخرجها نحو النور و نضعها في مرمى بصر من يبحث عنها لعناقها. اليقين قاتل لنسبية المعرفة. عدم التصريح بشيء و الحسم فيه، ونحن غير متيقنين بحقائقه، و بملابساته. شيء لا يعرفه الكثيرون عن الأستاذ زهير إحدادن، خارج مجالي التاريخ و الإعلام، أن الرجل كان من محبي الأدب. أكثر من ذلك، درس الأدب و اللغة العربيين، و حاصل على ليسانس من جامعة الجزائر المركزية، و هو بهذا موسوعة أدبية مهمة. يمكنه أن يحادثك براحة و بساطة عن الأدب العالمي الذي يشكل الجزء الخفي من اهتماماته الثقافية العامة خارج تخصصه التاريخي و الإعلامي الذي يعتبر فيه من المؤسسين. يساجل بسهولة في كاتب ياسين و وطار و ابن هدوڤة، ومحمد ديب، و في عن فلوبير، و بالزاك و تولستوي، نجيب محفوظ، الطيب صالح و دوريش، و غيرهم كثيرون، و هو ما أعطاه خصوصية بالنسبة لمجايليه الذين توقفوا عند حدود قراءات التخصص الفرنسية تحديدا. و لم يبذلوا أي جهد لتعلم اللغة العربية. البروفيسور زهير إحدادن، رجل لا يتكلم كثيرا، لكنه لا يصمت عندما يتعلق الأمر بقول الحق. و كل كلمة يقولها تحمل يقين الخبرة و الاختبار. كان ينتظر بفرح مضمر صدور سيرته: مسيرة مناضل، لكن الموت سبقه للأسف. و يفترض أن تحتوي هذه المذكرات على لحظات حاسمة من تاريخه الفردي و الجمعي أيضا. عن تجربته النضالية في UDMA الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ثم، في وقت لاحق، في جبهة التحرير FLN و كيف حدد خياراته و برر انتقالاته. و تجربته أيضا في جريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية التي عمل بها محررا تحت إدارة الفقيد رضا مالك، في تونس ثم في تطوان من جوان 1956 إلى مارس 1962. ورأيه كان دائما محل انتظار من الكثير من المثقفين حول الكثير من الأحداث التاريخية التي هزت البلاد وخفاياها، أو تلك التي اخترقت الثورة، بالخصوص قصة اغتيال المناضل الكبير، عبان رمضان التي يمكن أن يكون زهير إحدادن هو آخر الشهود فيها. فقد كان بتطوان يوم اغتياله. و لا أحد ينكر العلاقة الطيبة بين عبان رمضان و زهير إحدادن إذ كان هذا الأخير هو المنسق بينه وبين طلبة الجامعة إبان الثورة. و قد صرح مؤخرا لبعض زملائه و طلبته بفحوى هذه الجزئية التاريخية القاسية. فقد التقى أحد قتلة عبان رمضان و تحدث معه طويلا، و أخذ منه الكثير من التفاصيل و المعلومات التي تسمح بغلق فجوات التاريخ، منها ان القاتل تلقى أوامره من جهة رسمية محددة، و أنه لم يكن يعرف هوية المقتول. فقد نفذ أمرا أُعْطِيَ له، فقد جاؤوه بعبان رمضان، فأجهز عليه بحجة أنه خائن و لم يكن يعرف أنه قتل أحد رموز الثورة. و لم يدرك الحقيقة و فداحة ما فعله إلا بعد مدة طويلة.
ذهب اليوم هذا الرجل الكبير، زهير إحدادن، الباحث عن الحقيقة، و لكن يبقى منجزه التاريخي و التأليفي. كتبه التي تشكل اليوم مرجعا تاريخيا و ثقافيا جزائريا أساسيا. مادة حية تدرس في الجامعات و الحلقات الثقافية التاريخية والإعلامية. وليس غريبا على من أفنى حياته في مدارات الثقافة، رافضا فكرة التحول إلى سياسي، بعقلية السياسي التبريرية. فقد كان من رواد البحث عن التاريخ الذي يشكل پوزل puzzl ما تزال بعض قطعها غائبة مهما كانت قسوتها، و يجب أن تجد مكانها في التاريخ الوطني و الجمعي، كما كل التاريخ البشري الذي ليس كله لا ظلاما و لا نورا. فقد رفض العدمية التي انتهجها الكثيرون، الذين لا يرون في المنظومة التاريخية والثقافية إلا ما يشتهون رؤيته. فقد انعزل عن السياسة بعد الاستقلال عندما لمس انحرافها، و تفرغ للعمل الجامعي و التأليف. فقد كان وراء مؤلفات تاريخية كثيرة مثل: تاريخ صحافة الأهالي في الجزائر من البداية حتى 1930، و الصحافة المكتوبة في الجزائر من 1965 حتى 1985. و كتاب آخر عن مدينته بجاية، فهو من مواليد هذه الولاية (توجا): بجاية في فترة ألقها. الكثير من المعالم تدين له بالكتابة عنها بشكل قربها من الراغبين في التعرف على تاريخ المدن و ثقافاتها. كان من وراء تأسيس مدرستين مهمتين تاريخيا و ثقافيا: المدرسة العليا للأساتذة القبة، و المدرسة العليا للصحافة التي درس بها زمنا طويلا. لروحه الرحمة و السلام و لذاكرته الطيبة الاحترام و التقدير. رجل لم يكن كالجميع. كان مستقيما و مسموعا، و فوق كل شبهة. استمر كذلك حتى آخر العمر في الوقت الذي اختار فيه آخرون المال والوجاهات المريضة. كم تحتاجه اليوم جزائر أخرى، هشة و منهكة، تقف على الحواف الخطيرة التي قد تعصف بها نحو زمن لا أحد يقدر اليوم مخاطره.
اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)